محمد صديق المنشاوي

9

وجوه الإعجاز في حديث ناقصات عقل





كثيرا ما يُتهم الإسلام بأنه ينتقص من حق المرأة في الحياة والوجود والحقوق . وتُعقد لأجل هذا البرامج والندوات والمناظرات في أماكن مختلفة . واكثر ما يجري عليه التركيز هو عقل المرأة وان الإسلام يعتبرها ناقصة عقل ، ويستشهدون بالحديث الوارد في الصحيحين من أن النساء ناقصات عقل . فهل ما يقولونه حق وصحيح ، وهل المرأة فعلا ناقصة عقل ، وهل الرسول وصفها بذلك حقا وقصد ما فهموه هم من الحديث ، أم يا ترى أن الأمر هو خلاف ذلك؟



حديث ناقصات عقل
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في باب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : ‏يا ‏ ‏مَعْشرَ‏ ‏النساء تَصَدَّقْنَ وأكْثِرْن ‏ ‏الاستغفار ، فإني رأيُتكُنَّ أكثر أهل النار . فقالت امرأة منهن ‏ ‏جَزْلة : ‏ ‏وما لنا يا رسول الله أكثرُ أهل النار؟ قال : تُكْثِرْنَ اللَّعن ،‏ ‏وتَكْفُرْنَ‏ ‏العشير ، ‏ ‏وما رأيت من ناقصاتِ عقلٍ ودين أغلبَ لذي ‏ ‏لبٍّ ‏ ‏مِنْكُن . قالت يا رسول الله وما نقصانُ العقل والدين؟ قال : أما نُقصانُ العقل فشهادة امرأتين تعْدِلُ شهادةَ رَجُل ، فهذا نقصان العقل ، وتَمكثُ الليالي ما تُصلي ، وتُفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين . ومعنى الجَزْلة أي ذات العقل والرأي والوقار ، وتَكْفُرْنَ العشير أي تُنكرن حق الزوج .

وهذا الحديث لا يمكن فهمه بمعزل عن آية الدَّيْن التي تتضمن نصاب الشهادة ، وذلك في قوله تعالى : واستَشْهدوا شهيدين من رِجالِكم ، فإن لم يكونا رَجُلَيْن فرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرضَوْن من الشُّهداء ، أنْ تَضِلَّ إحداهما فَتُذَكِّرَ إحداهما الأخرى البقرة 282 .

الفهم الخاطئ والمتناقض للحديث
يبدو أن ما يتبادر إلى أذهان هؤلاء الذين يتيهون فرحاً وطرباً باتهام الإسلام انه يعتبر المرأة ناقصة عقل قوله صلى الله عليه وسلم : "وما رأيت من ناقصات عقل" . فاستنتج هؤلاء أن النساء ناقصات عقل ، وان نقص العقل هو نقص في القدرات العقلية ، أي أن قدرات النساء على التفكير هي اقل من قدرات الرجال . بمعنى أن المرأة تختلف عن الرجل في تركيبة العقل فهي اقل منه وانقص ، أي أن تركيبة الدماغ عند المرأة هي غيرها عند الرجل . ولو انهم تدبّروا الحديث لوجدوا أن هذا الفهم لا يمكن أن يستوي ، وانه يتناقض مع واقع الحديث نفسه ، وذلك للملاحظات التالية :
 ذكر الحديث أن امرأة منهن جَزْلة ناقشت الرسول . والجزلة ، كما قال العلماء ، هي ذات العقل والرأي والوقار ، فكيف تكون هذه ناقصة عقل وذات عقل ووقار في نفس الوقت ؟ أليس هذا مدعاة إلى التناقض؟
 تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من قدرة النساء وان الواحدة منهن تغلب ذا اللب أي الرجل الذكي جدا . فكيف تغلب ناقصة العقل رجلا ذكيا جدا؟
 أن هذا الخطاب موجه لنساء مسلمات ، وهو يتعلق بأحكام إسلامية هي نصاب الشهادة والصلاة والصوم . فهل يا ترى لو أن امرأة كافرة ذكية وأسلمت ، فهل تصير ناقصة عقل بدخولها في الإسلام؟!
فهذا الفهم حصر العقل في القدرات العقلية ولم يأخذ الحديث بالكامل ، أي لم يربط أجزاءه ببعض ، كما لم يربطه مع الآية الكريمة . فالحديث يعلل نقصان العقل عند النساء بكون شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد ، والآية تعلل ذلك بالضلال والتذكير . ولم تصرح الآية بان النساء ناقصات عقل ، ولا أن الحاجة إلى نصاب الشهادة هذا لأجل أن تفكير المرأة اقل من تفكير الرجل .

فما هو التفكير وما هو العقل؟
أنا اعرف التفكير كالتالي :
التفكير عملية ذهنية يتفاعل فيها الإدراك الحِسّي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف ، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع . 
حيث يتكون الإدراك الحسي من الإحساس بالواقع والانتباه إليه ؛ أما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع ، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبه ؛ وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة . ويحتاج التفكير إلى دافع يدفعه ، ولا بد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به .
إن هذا التصور للتفكير يتعلق بالإنسان بغض النظر عن كونه رجلا أو امرأة ، فهو ينطبق على كل منهما على حد سواء . ولا تَدُل معطيات العلم المتعلقة بأبحاث الدماغ والتفكير والتعلم على أي اختلاف جوهري بين المرأة والرجل من حيث التفكير والتعلم . كما لا تدل على اختلافٍ في قدرات الحواس والذكاء ، ولا في تركيب الخلايا العصبية المكونة للدماغ ، ولا في طرق اكتساب المعرفة . معنى هذا أن المرأة والرجل سواء بالفطرة من حيث عملية التفكير ، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا في الفروق الفردية .

وعليه فان التفكير ليس مجرد قدرات عقلية أو ذكاء ، بل هو أوسع من ذلك وتدخل فيه عوامل كثيرة ويمر في مراحل متعددة ، فهو عملية معقدة وليست بالبسيطة . كما أن العقل في مفهوم القرآن والسنة هو أوسع من مجرد التفكير ، إذ هو لفت انتباه للتفكير من اجل العمل . ولهذا فسوف نلاحظ دقة التعبير في الحديث ، فهو عبر بناقصات عقل مما يعني أن النقص هو في عوامل أخرى تؤثر في التفكير وليس في نفس القدرات الفطرية إلى ليس في قدرات الدماغ ، كما يتوهم كثيرون .

أين الإعجاز في هذا؟
يكمن الإعجاز في الحديث عن نقصان عقل المرأة بهذه الطريقة ، فهذا لا يمكن أن يحيط به بشر . فنصوص القرآن والسنة لا تفرق بين قدرات المرأة العقلية وقدرات الرجل ، ويتجلى ذلك في الخطاب الإيماني العام لكل من الرجل والمرأة . هذا بالإضافة إلى كثير من النصوص التي تتحدث عن ذكاء النساء وقدراتهن وآرائهن السديدة في مواضع متعددة من الكتاب والسنة . فإذا كان لم يثبت علميا أي اختلاف في قدرات النساء العقلية عن قدرات الرجال ، ونصوص القرآن والسنة لا تعارضان هذا ، فمعنى هذا أن نقصان العقل المشار إليه ليس في القدرات العقلية . فالتفكير عملية معقدة تدخل فيها القدرات العقلية ، ويدخل فيها عوامل أخرى منها الإدراك الحسي والدوافع والموانع والخبرة .
وإذا نظرنا إلى الآية نجد أنها عللت الحاجة إلى نصاب الشهادة المذكور بالضلال والتذكير ، وهذا أمر متعلق بالإدراك الحسي وبالدوافع والموانع . وهذا ينطبق على كل من الرجل والمرأة لكن المرأة لها خصوصيتها من حيث أنها تمر في حالات وتتعرض لتغيرات جسدية ونفسية تؤثر على طريقة تفكيرها . هذا بالإضافة إلى أن الحديث يجري عن أحكام إسلامية في مجتمع مسلم ، والمرأة بحكم طبيعتها وعيشها في المجتمع الإسلامي خاصة تكون خبرتها اقل من الرجال إجمالا لا سيما في المجالات التي يقل تواجدها فيه . إذن فنقصان العقل هو إشارة إلى عوامل أخرى غير القدرات العقلية التي قد تتبادر إلى أذهان من يتسرعون في إطلاق الأحكام وكيل الاتهامات دونما تحقيق أو فهم صحيح . وقد آن الأوان لهؤلاء أن يتراجعوا وان ينصفوا الإسلام حق الإنصاف ، وعلى المرأة إلا تنجرف وراءهم وان تثق بربها ودينها وتفاخر بذلك .

ملاحظة
هذه المقالة جزء من بحث أوسع واكمل حول هذا الموضوع تقدمنا به إلى مؤتمر الإعجاز العلمي في القرآن . ومن اجل التمكن من متابعة الموضوع يرجى مطالعة المقالات التالية :
تنمية مهارات التفكير
مواجهة المشاكل والتغلب عليها
كيف واجهت أم المؤمنين عائشة حادثة الإفك؟


شارك:
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تلاوات خاشعة لمختلف القراء

أرشيف المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة