محمد صديق المنشاوي

9

التزكية ودورها في تربية أفراد الأسرة

لقد اهتم القرآن الكريم بتربية الإنسان أيما اهتمام، وتحدث عنها بمفردات عديدة منها: التزكية والتطهير اللتان وردتا مع بعضهما في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة:103].
الصدقة تطهر الناس من الذنوب والأوزار، وتنمي حسناتهم، حتى يرتفعوا بها إلى مراتب المخلصين الأبرار، وادعُ لهم بالمغفرة، فإن دعاءك وإستغفارك طمأنينة ورحمة لهم -صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، حلب، دار القلم العربي 1994م/ 1414هـ 560.



ويقال: زكّى الشيء: نماه وزاد فيه، وزكى ماله: طهره بأداء الزكاة، وزكى نفسه: مدحها ونسبها إلى الطهر -المعجم العربي الأساسي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس.
فالتزكية تتضمن معنى النماء أو التطهير بحسب وقوعها في سياق الكلام.
وسنتدبر هذه المفردة في آيات القرآن، فقد حوت هذه المعاني وزيادة، وسنجد مدى صلة التزكية بالنفس وتأثيرها فيها.

[] المبادرة إلى التزكية:

يحرص الإنسان في حياته على صحة جسمه، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويحرص العاقل على سلامة نفسه، فيزكيها بتطهيرها من الذنوب، وتنميتها بفعل الخيرات والطاعات قال الله تعالى: {قد أفلح من تزكى*وذكر اسم ربه فصلى}  [الأعلى:14-15].
فالمسلم يزكي نفسه بذكر الله وإقام الصلاة، ولعل التسبيح الذي يتكرر كثيرًا في ركوع الصلاة وسجودها، وهو من ذكر الله يزكي النفس أكثر من غيره، ومما جعلني أؤكد ذلك أن سورة الأعلى إبتدأت بالأمر بالتسبيح {سبح اسم ربك الأعلى*الذي خلق فسوى} [الأعلى:1-2].
ويتفق التسبيح مع التزكية، فالتسبيح هو تنزيه لله تعالى عن النقائص، والتزكية تطهر النفس من الموبقات، فالمسلم الحق الذي يسعى إلى التزكية يتوب إلى الله وينقي نفسه من الذنوب، وينزه إعتقاده عن الشرك، وبما أن التسبيح له أهمية في تزكية النفس، أمر الله به في القرآن في مواضع عدة منها قوله تعالى: {يأيها الذين آمنو اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا} [الأحزاب:42].
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» متفق عليه.
وطريق التزكية معروف في القرآن: إنه الإيمان والعمل الصالح.
ومن الأعمال الصالحة التي تزكي النفس وتبعد عن النار الصدقة لوجه الله تعالى الذي قال في كتابه {وسيجنبها الأتقى*الذي يؤتى ماله يتزكى*وما لأحد عنده من نعمة تجزى*إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى*ولسوف يرضى} [الليل:17-21].

وقد أمر الله نبيه أن يأخذ صدقة من الذين إعترفوا بذنوبهم، لتطهرهم من الذنوب والأوضار، وتنمي حسناتهم حتى يرتفعوا بها إلى مراتب المخلصين الأبرار فقال سبحانه {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103].
ومما يزكي النفس الإيمان بالغيب، والإعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة، فالإيمان بالغيب يعمق المراقبة في نفس المسلم لله تعالى، ويعيش المؤمن وهو يشعر أن الله يسمعه ويراه، ويعتقد أن الله سيحاسبه على أعماله، فيخشاه، ويقيم صلاته على أحسن وجه، ويعبد ربه كأنه يراه...
قال تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه إلى الله المصير} [فاطر:18].
إن التزكية فعل إيجابي يقوم به المسلم، ليؤدي إلى نمو الخير في نفسه، وزيادة تقواه، ومما يدل على ذلك أن الله تعالى وصف الذين يتمسكون بآداب الزيارة، والذين يغضون أبصارهم بالزكاء، فقال سبحانه: {فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعلمون عليم} [النور:28].
وقال سبحانه: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} [النور:30].
وعلمنا القرآن في آياته وقصصه أن نختار الطيب الحلال وعبّر عنه بـ أزكى في قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعامًا فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدًا} [الكهف:19]، إن الآية تشير إلى أن نربي أولادنا على حسن التصرف عند تكليفهم بشراء حاجات من السوق أن يختاروا منها ما هو طيب وصالح، وهذا يحتاج إلى تدريب لهم منذ الصغر على إختيار الأزكى.
[] التزكية فلاح ونجاح:
قد بشر الله تعالى كل مؤمن يتزكى بالفلاح ودخول الجنة فقال: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] وقال: {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9]، دلت الآيتان وغيرهما أن المفلح هو من زكى نفسه -أي نماها وأعلاها بالطاعة والصدقة واصطناع المعروف- وهو من عالج نفسه بالمجاهدة والتزكية إلى أن دخل دائرة الفلاح.
وجزاء المفلحين الذين تزكوا، هو دخول الجنة خالدين فيها يتنعمون {ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى*جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} [طه:75-76].
إن الآية تصف الذي قام بالتزكية بالإيمان والعمل الصالح، وتقرر أن مآله الجنة التي حسنت مستقرًّا ومقامًا.
 رسول الله يزكِّي:

ويحتاج المسلم إلى من يأخذ بيده إلى طريق التزكية، ويبصره بسبيلها، ففي عهد النبي صلي الله عليه وسلم كان الصحابة يتوافدون على الرسول صلي الله عليه وسلم فيستمعون منه وهو يتلو عليهم آيات ربه، فيزكيهم ويرقيهم، كما أنه يبيّن لهم طريق الهدى بوصاياه وإشاداته، ومما يؤكد ذلك قصة ابن أم مكتوم الذي جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم ليتزكّى، قال الله تعالى: {عبسى وتولى*أن جاءه الأعمى*وما يدريك لعله يزكى*أو يذكر فتنفعه الذكرى} [عبس:1-4]، ومن الأمور المهمة في دعوة الرسل عليهم السلام -التزكية- فقد أمر الله عز وجل سيدنا موسى بالذهاب إلى فرعون، لدعوته كي يزكى نفسه ويطهرها من الذنوب والآيات ويؤمن بالله ويطيعه ويخشاه فقال عن ذلك {اذهب إلى فرعون إنه طغى*فقل هل لك إلى أن تزكى*وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات:17-19]، وأكد القرآن مهمة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في تزكية النفوس فقال في آياته: {هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2]، {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164].
والملاحظ من الآيتين السابقتين أن الأميين كانوا في ضلال مبين فكانت التزكية لهم عملية تحول، حيث أقلعوا عن شركهم ودخلوا في الإسلام طائعين، وهذا ما تدعوهم إليه الآيات التي كان يتلوها عليهم الرسول صلي الله عليه وسلم.
ومما يؤكد على أن من مهام الرسول محمد صلي الله عليه وسلم التزكية ما ورد في دعاء سيدنا إبراهيم، إذ قال كما ورد في القرآن: {ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة:109].
إن التزكية التي تحقق التغيير في إعتقاد الإنسان وأعماله هي تربية ترمي إلى تنقية المرء من الذنوب، وتنمية الإيمان في قلبه، والعمل الصالح في حياته.
ومن سياق الآيات نجد أن التزكية قد إقترنت بتلاوة الآيات القرآنية وسماعها مع تعليم الكتاب والحكمة، مما يرشدنا إلى أن تلاوة القرآن وسماعه تزكي المؤمن ونفسه قال تعالى:{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204].
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم «ما إجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم.
والرحمة من الله تزكية... وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود الإلهي غير مضنون بها على أحد ولكن لابد من الاستعداد للقبول بتزكية النفس وتطهيرها عن الخبث والكدورة -ميزان العمل، أبوحامد الغزالي، مكتبة الجندي، القاهرة 1973م. ص 33.
وبما أن الأب مسؤول عن تربية أبنائه، يجب عليه أن يجمع أفراد أسرته في الأسبوع أكثر من مرة، ليقرأوا القرآن ويتدارسوه، فتنزل عليهم الرحمات وتزكوا النفوس، وتغدو أسرة مباركة.
[] التزكية بين الحقيقة والإدعاء:
تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9]، وقوله: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى:14].
والثاني: القول كتزكية المرء نفسه وهو مذموم وقد نهى الله عز جل عنه فقال: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم:32]، أي لا تمدحوها على سبيل الإعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فالله تعالى هو العالم بمن أخلص واتقى ربه في السر والعلن -صفوة التفاسير، مرجع سابق، ج3، ص 277.
فعلى المرء أن يتحقق بالتقوى والتزكية، وذلك بأخذه بأسبابها كما بينا، وعليه ألا يدعي أنه هو الذي زكى نفسه فيمدحها، بل الواجب أن يعيد الفضل لله وحده فهو الموفق لكل خير، وهو المزكي سبحانه، وهذا واضح جليّ في الآيات الكريمة التالية: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلًا} [النساء:49]، {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} [النور:21].

[] نسبة التزكية:
مما سبق لاحظنا أن التزكية تكون من الإنسان، ومن الرسول، ومن الله، وللراغب الأصفهاني كلام جميل ومفيد في هذا المعنى إذ يقول: بزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبًا لذلك نحو {قد أفلح من زكاها}، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلًا لذلك في الحقيقة نحو {بل الله يزكّى من يشاء} وتارة إلى النبي لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو {تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103] و{يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم} [البقرة:151].
وتكون تزكية الله ايضًا بالإختيار مثل تزكيته للرسل نحو {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لكل غلامًا زكيًّا} [مريم:19].
[] التزكية تربية:
نخلص في ختام الحديث عن التزكية إلى أنها تربية للإنسان، تطهره من الشرك والذنوب، وتنمي فيه عناصر الخير، فيغدو إنسانًا مؤمنًا موحدًا ومسبحًا لله بذكره وفعله، ومقيما للصلاة بخشوع، مما يرفعه إلى مصاف عباده المفلحين الذين يتقربون إليه بأعمالهم تزكية، فيرضى عنهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم.
الكاتب: الأستاذ أحمد حسن الخميسي.
المصدر: المنتدي الإسلامي العالمي للإسرة والمرأة.
شارك:
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تلاوات خاشعة لمختلف القراء

أرشيف المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة