محمد صديق المنشاوي

9

عبادة الله في الخلوة قيام الليل

لقد خلق الله الإنس والجنّ ليعبدوه قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56]، فأرسل إليهم الرّسل ليبيّنوا لهم طريق الهدى، ويحجزوهم عن طريق الرّدَى قال سبحانه ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل:36]، وإنّ أهل الهدى والرّشاد لفي حاجة إلى المزيد من التّعلق بربّهم وعبادته سرّا وعلانية ليشهدوا منه مقام التّوفيق والسّداد في الدّارين، ولايصلح القلبَ إلا عبادة الله جلّ جلاله، لأنّه أشد حاجة إليها من حاجة الجسم للطعام والشراب، يقول ابن القيم - مقرراً تلك الحاجة: (اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره.. ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها) [1].

وهكذا فإن العبد عبد لله في جميع أحواله سرا وجهرا، في الشدة والرخاء، وحال العافية والبلاء، لايجد راحته إلا في عبادة ربه لاسيما ماكان منها بعيدا عن الخلق، فالعبادة عبادتان عبادة جهرية ظاهرة أعمالها، مرفرفة أعلامها، وعبادة خفية هي التي نحاول أن نقف على معانيها في هذه الكلمات.






العبادة: تعريفها:
العبادة: العبادة في لغة العرب إذا أُطلقت، إنما تعني: التّذلّل، يُقال: طريق معبَّد، أي: مذلّل قد وطئته الأقدام.

أمّا في اصطلاح العلماء: فقد تنوّعت أقوال العلماء في تعريف العبادة:
قال ابن جرير: (معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة، والتذلّل له بالاستكانة، وفسّرها ابن عباس - رضي الله عنهما - بالتّوحيد "[2].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " العبادة هي اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة [3].

فالعبادات هي وظائف الشّرع على المكلّفين لأنّهم يلتزمونها، ويفعلونها خاضعين متذلّلين لله تعالى.

قال تعالى مخبرا عن حال رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ  [4].

قال ابن القيم في نونيته المشهورة:

وعبادة الرحمن غاية حبّه 
مع ذلّ عابده هما قطبانِ 

وعليهما فَلَكُ العبادةِ دائرٌ 
ما دار حتّى قامتِ القُطبْانِ 

ومداره بالأمرِ أمرُ رسُولِه 
لا بالهوى والنَّفس والشّيطانِ

وأمّا العبوديّة فقد عرّفها الجرجانيّ بقوله: هي الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرّضا بالموجود، والصّبر على المفقود[5].

والعبادة كما قال الرّاغب ضربان[6]:
1- عبادة بالتّسخير: وهي للإنسان والحيوانات والنّبات.

2- عبادة بالاختيار: وهي لذوي النّطق، وهي المأمور بها في قوله سبحانه ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾[7]، والأخيرة المقصودة بالبحث.

العبادة في القرآن:
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ الحكمة من إيجاد الخلق هو عبادته جلّ جلاله فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56]، فلم تُخلق -أخي المسلم- للدّنيا وجمع الحطام، ولم تُخلق للتّكاثر والتفاخر، والسعي في الدنيا، وإغفال الآخرة، لم تخلق لتتمتع بالمراكز والمساكن والمراتب والمناصب والأبناء؟! وإنما خلقت لعبادة الله سبحانه وتعالى، وفرق ما بين المؤمنين والكافرين: أنّ المؤمنين يتذكرون ما خلقوا لأجله، وأنّهم مخلوقون لعبادة الله، أمّا الكفار فإنّهم يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام؛ لكن ما هي النّتيجة الوخيمة؟ والعاقبة الخطيرة؟ ﴿ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ﴾ [محمد:12] نسأل الله العافية.

وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ﴾ [النساء:36]، ويقول سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء:23]، ويقول جلَّ شأنه: ﴿ وَمَاأَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:25]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [هود:12]، ويقول جلَّ وعلا: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:92]، ويقول جل وعلا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5].

العبادة في السنة:
وقد بينت السنة الشريفة سبيل العبادة قولا وفعلا وتقريرا، وجاءت الأحاديث الدالة على حث العبد على الاستقامة في عبوديته لربه وحده لايشرك به شيئا فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أعرابيّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنّة. وفي رواية أبي أيوب رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ يَا مُحَمد، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [8]، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ" [9]، قال: ((تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة المكتوبة، وتؤدّي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان)). قال: والّذي نفسي بيده لا أزيد على هذا.

فلمّا ولّى قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا))[10]، فانظر رعاك الله تعالى كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ التّوفيق والهداية والسّداد هو عبادة ربّ العباد.

وفي حديث جبريل عليه السلام أن العبد إذا عبَدَ اللهَ عبادة مراقب له في كل أحواله فقد بلغ درجة الإحسان قال صلى الله عليه وسلم ((اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [11]"، وتتعجب عائشة رضي الله عنها من كثرة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وطول قيامه فتقول: لم تفعل هذا يا رسول الله! -خطاب إشفاق ورحمة- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ما هو الجواب العظيم الذي يجب ألا نغفل عنه؟، فيقول: ((يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً))[12].

فهكذا يكون الشّكر الحقيقي! ليس شكراً بالقول واللسان مع الإعراض والنسيان.

أقسام العبادة:
تنقسم العبادة إلى باطنة وظاهرة:
العبادات كثيرةٌ ومتنوعة، فمنها: ما هو من أعمال القلوب، وهو ما يسمّى بالأعمال الباطنة: كالتوكل على الله، ورجاء ما عنده، والخوف منه جلَّ وعلا.. وما إلى ذلك.

ومنها: ما هي أمور ظاهرة متعلقة بالأبدان: كالصلاة، والحج.. وما إلى ذلك.

ومنها: ما هو مالي: كالزكاة.

ومنها: ما هو مالي وبدني: كالحج.

ونحو ذلك من الأقسام التي لا تكاد تخفى على أي مسلم.

فتبين من هذا - يا إخوتي في الله - سعة مفهوم العبادة في الإسلام، بل أكثر من ذلك الأعمال العادية تنقلب إلى عبادات عظيمة، إذا تحقق فيها الإخلاص لله عزَّ وجلَّ.

والعبادة باعتبار أحوالها ظاهرة وباطنة، أو سريّة وجهرية، أو عبادة الخلوة،وعبادة الجلوة.

وغاية العبد من عبادة مولاه سرّا وجهرا هو:
الظّفر برضاه، الذي هو نيل رحمته، والسّلامة من غضبه. لاسيما إذا استفاد المرء من خلواته، فإن في ذلك خير كثير، فما الخلوة؟ وما مدى تأثيرها في حياة العبد؟

الخلوة وأثرها في عبادات السّرّ:
الخلوة أو العزلة: انحباس للنفس بعيدا عن مخالطة النّاس، وذلك لمراجعة النّفس والوقوف على أخطائها، أو التفكر في ملكوت السموات والأرض وتمجيد باريها، أو الزيادة في العبادات والتلذذ بالمناجاة، وقد جاءت في ذلك أقوال عدّة عن السلف،منها: قول عمر رضي الله عنه: "خذوا بحظِّكم من العزلة"، وقال "((العزلة راحة من خلاط السّوء" [13]، وقول أبي الدرداء – رضي الله عنه: ((نِعْمَ صومعة الرجل بيته يكفّ فيها بصره ولسانه، وإيّاكم والسّوق فإنّها تُلهي وتُلغِي))، وقول ابن المسيب: (العزلة عبادة وذكر)، وقول مسروق: (إنّ المرء لحقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها يذكر فيها ذنوبه فيستغفر منها "[14]، وقال ابن تيمية:لابدَّ للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه، ومحاسبتِه لنفسِه، ودعائِه واستغفارِه، وبُعدِه عن الشرِّ، ونحوِ ذلك"؛ ولقد عقد ابنُ الجوزي ثلاثة فصولٍ في (صيْدِ الخاطرِ)، ملخَّصها أنه قال: ما سمعتُ ولا رأيتُ كالعزلة، راحةً وعزّاً وشرفاً، وبُعداً عن السّوءِ وعن الشّرِّ، وصوْناً للجاهِ والوقتِ، وحِفظاً للعمرِ، وبعداً عن الحسَّادِ والثّقلاءِ والشَّامتين، وتفكُّراً في الآخرةِ، واستعداداً للقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، واغتناماً في الطّاعةِ، وجولان الفكر فيما ينفعُ، وإخراج كنوزِ الحِكَمِ، والاستنباط من النّصوصِ" [15].

وليس المراد من الحثّ على اتخّاذ خلوات للتّعبد، الحثُّ على العزلة المطلقة عن الناس، إذ ذاك أمر تأباه نصوص الشّرع وقواعده، والحقّ أنّ من العزلة ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع.

فالعزلة المشروعة ما كان مأموراً بها أمرَ إيجاب كاعتزال الأمور المحرّمة وترك مخالطة من يخوض في آيات الله - عز وجلّ - حتى يخوض في حديث غيره، أو عزلة استحباب كاعتزال النّاس في فضول المباحات وما لا ينفع في الآخرة، والاختلاء الوقتي بالنّفس للمحاسبة والتّأمل والصّلاة، والقراءة والدّعاء والاعتكاف ونحو ذلك.

والعزلة غير المشروعة ما أدَّت إلى إضاعة حقّ الله تعالى، أو النّفس أو الخلق كإضاعة الجُمَع والجماعات، وجهل ما يجب علمه، وعدم تعاونٍ على البر والتقوى، وتضييعٍ لحق الأهل والوالد والولد، وترك كسب ما يحتاج إليه العبد من نفقة، ونحو ذلك "[16].

قال بكر أبوزيد رحمه الله تعالى: " وَمِن لطيفِ ما يُقَيَّدُ قَولُ بعضِهِم[17]:
"العُزلةُ من غيرِ عينِ العلم: زَلَّة، ومنِ غير زاي الزُّهد: عِلَّة".بمعنى أن من أراد العزلة فعليه بالعلم والزهد، وإلا فلا يتعنّى.

وقد كان عبد الله بن عبد العزيز العمريّ الزّاهد لا يجالس النّاس، وينزل مقبرة من المقابر، وكان لا يكاد يُرى إلاّ ومعه كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك، وعن نزوله المقبرة فقال: لم أر أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب، ولا أسلم من الوحدة، فقيل له:قد جاء في الوحدة ما جاء! فقال: ما أفسدها للجاهل، وأصلحها للعاقل ! [18].

الفرق بين العبادة السريّة والعلنيّة:
قال تعالى ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) ﴾ النساء،

إنّ العباداتِ الخفيّة، وقُرَبَ السّرّ المشتملة على تعظيم الرّبّ وأوامره ونواهيه، والإكثار من مناجاته في الخلوات، لتفضل الأعمال الجليّة غير الفرائض الظّاهرة، فضلا عظيما يجده العبد صقلا[19] في قلبه من أدران الرّياء، والتّطلع لحبّ الثناء من الناس فعن الزّبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل))[20]، فقد جاء التّوجيه النّبويّ الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ العبد إذا صلّى في العلانية فأحسنَ، وصلّى في السّرّ فأحسن - قال الله عز و جل: هذا عبدي حقًّا)) [21]، قال الملا القاري: ولعلّ هذا هو السّرّ في حثّه أن تُصَلّى السّنن والنّوافل في البيت.

وعَنْ عَامر بن سعد بنِ أَبي وَقّاص عن أبيه رضي الله عنه:سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنهَا سَتَكُونُ بعدِي فِتَن، أَو قَالَ:أُمُور، خَيرُ اَلنّاسِ فِيهَا اَلغَنِي اَلخَفِيُّ اَلتَّقِيُّ)) [22].

نعم إنّهم الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، شغلوا أنفسهم بالله، فازدادوا له إخباتا وطاعة، وعرفوا أنفسهم وكيدها فازدادوا لها إذلالا لمعبودها. فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى للهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ))

أخرجه ابن ماجة (3989)[23].

ويحكي الخُرَيْبِي عن السّلف أنّهم" كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها"[24]،

وقال مسلم بن يسار: (ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزّ وجل).

ويقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "يا بُنيّ أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق اللهَ فيها فعلُك في العلانية، ولا تظننّ أنّ العلانية هي أنجح من السَّريرة، فإن مَثَلَ العلانية مع السَّريرة كمَثَلِ ورق الشّجر مع عِرْقها: العلانية ورقها، والسَّريرة عِرْقها، إن نُخِر العِرْق هلكت الشّجرة كلّها؛ ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشّجرة كلّها؛ ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشّجرة في خير ما كان عِرْقها مستخفياً لا يُرى منه شيء. كذلك الدّين لا يزال صالحاً ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته، فإنّ العلانية تنفع مع السَّريرة الصالحة كما ينفع عِرْقَ الشجرة صلاحُ فرعها، وإن كان حياتها من قبل عِرْقها فإنّ فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السَّريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تُزَيِّن الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه- عز وجل[25].

ومن خواطر ابن الجوزي في صيده[26] قوله: "نظرت في الأدلة على الحق - سبحانه وتعالى - فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أنّ الإنسان يخفي الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدّث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليعلم أنّ هنالك ربّاً لا يُضِيعُ عَملَ عاملٍ، وإن قلوب النّاس لتعرف حالَ الشّخص، وتحبّه، أو تأباه، وتذمّه، أو تمدحه وفق ما يتحقّق بينه وبين الله - تعالى - فإنّه يكفيه كلّ همّ، ويدفع عنه كلّ شرّ.

وما أصلح عبدٌ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحقّ إلاّ انعكس مقصُودُهُ وعادَ حَامِدُهُ ذَامّا".

صور من عبادة السِّرّ:
1- عبادة القلب:
اعلم يا رعاك الله إنّ من أجَلِّ عبادات السِّر وأعظمها، هو الإيمان بالله جلّ في علاه،وهو سرّ بين العبد وربّه، تترجمه الأقوال الصّادرة، والأفعال الظّاهرة، وإنّ الله - عز وجلّ - لا ينال من عبده إلاّ التقوى، ولا ينظر إلى الصّور والأموال وإنمّا إلى القلوب والأعمال، ولا ينفع عنده يوم تبلى السَّرائر مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، والإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتّحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، كما يشهد لذلك قوله - تعالى: ((ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب))[27]، والإيمان النقي يورث الخشية في الخلوات والجلوات من ربّ الأرض والسموات قال تعالى: ﴿ إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ﴾ [فاطر: 18]، أي: يخافونه - سبحانه - حال خلوتهم به بعيداً عن أعين الخلق[28].

"ومن تأمَّل سير السّلف وجد اهتماماً بليغاً بعبادة القلب، التي هي روح العبودية ولبّها، بل هي الأصل وإنّما أعمال الجوارح تبع ومكملة ومتمّمة لها، فهذا الصّحابي الجليل والإمام الجِهْبِذ ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ((من صلّى صلاة عند النّاس لا يُصلّي مثلها إذا خلا، فهي استهانة استهان بها ربّه))، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُون مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، وفي يوم قال رضي الله عنه لأصحابه: ((أنتم أكثر صلاة وأكثر جهاداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: بمَ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إنّهم كانوا أزهد في الدّنيا وأرغب في الآخرة)) [29].

وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبوديّة القلب وأحوالهم فكان ممّا قال:
"وجملة أمرهم أنّهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبّة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلاّ وقد دخله الحبّ، قد أنساهم حبّه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، فدنفوا[30] بحبِّه عن حبّ من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرّغبة إليه والرّهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلّل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همّه عليه متذكّراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلّت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.

فيا لها سجدةً ما أشرفَها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربّه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة) [31].

ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائلاً: (إنّ تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالاً، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحبّ شيئاً وأطاعه، وأحبّ عليه وأبغض عليه فهو إلهه، فمن كان لا يحبّ ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقّاً، ومن أحبّ لهواه، وأبغض لهواه، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه) [32].

2- العلم:
وأعظم العلم معرفة الله تعالى، والعلم علمان علم نافع وهو: علم القلب بالله تعالى ومحابّه، وعلم اللّسان من معرفة ما شرع الشّارع فذاك حجّة الله على خلقه، فعن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((العلم علمان: علم في القلب، فذاك العلم النّافع، وعلم على اللّسان، فذاك حجّة اللّه على ابن آدم))[33].

وقال بعض العلماء: "العلم صلاةُ السرِّ، وعبادةُ القلبِ". بل العلم من أجَلّ العبادات وأعظمها قربة لله، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه لله خشية، وطلبه عبادة)) [34].

قال الغزالي رحمه الله تعالى: العلم عبادة القلب،وصلاة السّرّ، وقربة الباطن، كما لا تصحّ الصّلاة التي هي وظيفة الجوارح الظّاهرة إلاّ بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلاّ بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف)[35].

3- قراءة القرءان:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة))، قال الترمذي: ((ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية)).

ولقد طفق بعض الصالحين من السلف رحمهم الله تعالى على إسرار قراءته حتى لا يرى أنه أكثر الناس تلاوة للقرآن فقد ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة.عن سفيان قال: أخبرتني مرية الربيع بن خثيم قالت: "كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه).

أي إذا قدم الرّجل على الرّبيع قام الرّبيع فغطّى المصحف بثوبه حتىّ لا يرى الرّجل أنّه يقرأ القرآن.

4- الذكر:
ذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللّسان أيهما أفضل، قال القاضي: والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحا وتهليلاً وشبههما وعليه يدل كلامهم، لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه وإلا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله؟ وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه، والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فإن كان لاهيا فلا، واحتج من رجح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل، ومن رجح ذكر اللسان قال لأن العمل فيه أكثر، فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر.

قال القاضي: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب فقيل تكتبه ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها، وقيل لا يكتبونه لأنه لا يطلع عليه غير الله، قلت: الصحيح أنهم يكتبونه وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده والله أعلم[36].

5- صلاة النّوافل في الخلوات:
الصلاة أعظم طاعة للمناجاة، وسبيل أهل التقى لإدراك الدرجات، ولاسيما قيام اللّيل في الخلوات، قال تعالى مثنيا ومادحا عباده الذين يبيتون يراوحون بين جباههم وأرجلهم في الصلاة، يرجون رحمة الله ويخافون عقابه، وقد رقد كلّ رقيب إلاّ الحيّ الرّقيب، يستطيبون مناجاته، ويتلذّذون بالأنس به، إذا خلا كلّ حبّ بِحِبِّهِ، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة:16].

وقال سبحانه ممجّدا علم العاملين بما عملوا، فباتوا لله قانتين، ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) ﴾ الزمر.

(عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحَاذِّ ذو حظّ من الصّلاة [37]، أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السّرّ، وكان غامضا في النّاس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك، ثمّ نفض بيده، فقال: عجّلت منيّته، قلّت بواكيه، قلّ تراثه))[38].

وكان الفضيل بن عياض يقول: "كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة:الحلم، والأناة، وحظٌّ من قيام الليل)[39].

ولقد كانت الأصوات الشجية المذكرة بقيام الليل ترتفع وتنادي:

يا رجال اللّيل جِدُّوا 
رُبَّ صَوْتٍ لاَ يُرَدُّ 

ما يقومُ اللَّيل إلاّ 
مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ 

يقول محمد الراشد[40]:
و إنها حقاً لمدرسة، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يُذْكُوا شُعْلَة حماستهم، وينشروا النُّور في الأرجاء التي لفّتها ظلمات الجاهلية.

و إنها تجربة إقبالٍ[41] يوجزها فيقول:

نائحٌ واللّيل ساجٍ سادلُ 
يهجعُ النَّاسُ و دَمْعِي هَاطِلُ 

تصْطَلِي رُوحِي بِحُزنٍ وَأَلَمْ 
وِرْدٌ (يا قومُ) أُنْسِي في الظّلَمْ 

أنَا كالشّمعِ دُمُوعِي غسلي 
في ظلام الليلِ أُذْكِي شُعَلِي 

محفلُ النّاسِ بِنُورِي يُشْرِقُ 
أنشرُ النّورَ ونفسِي أَحْرِقُ 

وكان أيوب السختياني يقوم اللّيل كلّه، ويخفي ذلك، فإذا كان عند الصّبح رفع صوته، كأنّه قام تلك السّاعة[42]، والأمر أكثر من أن يحصر.

وقال محمد بن القاسم: صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة، لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع، إلا يوم الجمعة، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف، لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، خوفا من الرياء، وكان يدخل بيتا له ويغلق بابه، ولم أدر ما يصنع، حتى سمعت ابنا له صغيرا يحكي بكاءه، فنهته أمه، فقلت لها ما هذا؟ قالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ ويبكي، فيسمعه الصبي فيحكيه، وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه، واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء، وكان يصل قوما ويكسوهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه، ولا أعلم منذ صحبته وصل أحدا بأقل من مئة درهم، إلا أن لا يمكنه ذلك "[43].

ومن صلاة السِّرِّ تَنَفُّلُ المرء في بيته وعند أهله فعن الأوزاعي عن حسّان بن عطيّة رحمهما الله تعالى قال: "صلاة الرّجل عند أهله من عمل السرِّ" [44].

6- الدّعاء:
قال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾[45]: قال ابن جرير: تضرّعا تذلّلا واستكانة لطاعته. وخفية يقول: بخشوع قلوبكم، وصحّة اليقين بوحدانيّة وربوبيّته فيما بينكم وبينه لا جهارا مراءاة"[46].

وعن الحسن قال: إن كان الرّجل لقد جمع القرآن وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل لقد فقه الكثير وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل ليصلّي الصّلاة الطّويلة في بيته وعنده الزَّوْر وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السّرّ فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلّا همسا بينهم وبين ربّهم وذلك أنّ اللّه تعالى يقول: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾، وذلك أنّ اللّه ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: ﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3].

قال ابن جريج: ((يكره رفع الصّوت والنّداء والصّياح في الدّعاء، ويؤمر بالتّضرّع والاستكانة))[47].

وقال قتادة:"إنّ اللّه يعلم القلب التّقيّ، ويسمع الصّوت الخفيّ "[48].

6- وفي الصيام:
فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير، قال الفلاس، سمعت ابن أبي علي يقول: (صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غذائه فيتصدق به في الطريق).

وكان بعضهم إذا أصبح صائما ادَّهَنَ، ومَسَحَ شَفَتَيهِ من دُهْنِهِ حتىّ ينظر إليه الناظر فلا يري أنه صائم.

وذكر الذهبي في السير أن محمد بن واسع كان يسرد الصوم ويخفيه "[49].

7- الصّدقات:
قال تعالى ﴿ إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]، والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر على صدقة العلانية، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة:274] فقدّم تعالى صدقة السّرّ عن العلانية، وصدقة اللّيل عن النّهار لخفائهما، وبعدهما عن الرّياء والمباهاة، وحظوظ النّفس المريضة، وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول بسند حسن قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربع آلاف درهم فأنفق درهما سرّا، وآخر علانية، وآخر باللّيل، وآخر بالنّهار.

وجاء من السّبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: ((رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،...))[50]. قال الحافظ: قوله " بِصَدَقَةٍ " نَكَّرَهَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيل وَكَثِير، وَظَاهِره أَيْضًا يَشْمَل الْمَنْدُوبَةَ وَالْمَفْرُوضَةَ، لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيّ عَنْ الْعُلَمَاء أَنَّ إِظْهَار الْمَفْرُوضَة أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا [51].

وقد تقدّم حديث الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة، وفيه دليل عظيم على فضل صدقة السّر على العلانية.

وفي المسند عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله تبارك وتعالى الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا ربّ هل من خلقك شيء أشدّ من الجبال، قال: نعم الحديد، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد، قال: نعم النار، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من النار، قال: نعم الماء، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء، قال: نعم الريح، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الرّيح، قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله"[52].

وكانت شيمة السّلف الإنفاق سرّا وعلانية، بل كانوا يحرصون على صدقات السّرّ أكثر منها علانية لما فيها من الذّخر الجميل عند الرّبّ الجليل، فعن عن أبي حمزة الثمالي: أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرّبّ.

وعن محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل. وعن عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين، وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل. وقال شيبة بن نعامة: لما مات علي وجدوه يعول مئة أهل بيت.

قال الذهبي: لهذا كان يبخل، فإنه ينفق سرا، ويظن أهله أنه يجمع الدراهم وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السر حتى توفي "[53].

8- البكاء في الخلوات:
البكاء عبادة الخاشعين، وأنس الأواهين المخبتين، وزينة العابدين المحبين، وقد جاء في القرءان والسنة صفة البكائين من أهل العلم والإيمان، والخشية من الرحمان قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) ﴾، وجاءت الأحاديث الكثيرة التي تميط اللثام عن فضل البكاء من خشية الله في الخلوات، ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم سيد البكائين من خشية الله تعالى سرّا وعلناً فعبدالله بن الشخير عن أبيه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء)) [54]، قد روت أمنا عائشة رضي الله عنها أن قامت تفتقد حاله فإذا هو ساجد ودموعه تهمي"، كما في حديث السّبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه وذكر فيه ((... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )) حديث البخاري.

وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ )) أخرجه الترمذي (1639).

وعن زائدة: "أنّ منصور بن المعتمر مكث ستّين سنة يقوم ليلها، ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بنيّ! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصّبح كحّل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى النّاس)[55].

وقال محمد بن واسع: "لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصّف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه"[56].

وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
(كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).

يُظهر-رحمه الله تعالى- أنّه مزكوم لإخفاء البكاء؛ هكذا حرصهم على هذه الصفة السر في الأعمال،تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعاته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدّمعة.كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال: (إن كان الرّجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردّها، فإذا خشي أن تسبقه قام).

ولقد كان ابن المبارك رحمه الله تعالى مرفوع الذّكر عند الناس لنقاء سريرته، وخفاء طاعاته وبكائه، يقول أحد تلاميذ ابن المبارك: سافرت مع عبد الله ابن المبارك فرأيته في السفر فقلت: سبحان الله يصلي كصلاتنا، ويقرأ كقراءتنا، ويصوم كصيامنا، ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله له مكانته في العالمين، فبماذا؟

قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، فأتينا ابن المبارك بعد ساعة بالسراج فإذا هو في الظلام يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته.

قلنا: مالك يا أبا عبدالرحمن؟

قال: والله لقد ذكرت القبر بهذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر؟
فعلم هذا التلميذ مصدر السر وراء هذه المنزلة العالية لابن المبارك.. إنها الخشية والخوف من الله.

9- خدمة الضعفاء:
لم يكتف الصّالحون الأخفياء بصلاتهم وصومهم وعبادتهم القاصرة على أنفسهم، بل تعدَّى نفعهم إلى غيرهم في خفاء وسرية تامة، فيسهرون إذا نام الناس، ويؤثرون إذا ضنّ الآخرون، كلّ ذلك ابتغاء أن يرفع الله درجاتهم، ويقضي حاجاتهم،ويكشف كرباتهم ﴿ يوم لاينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ﴾ [57] فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرعى عجائز قد كبرن ولم يجدن من يخدمهنّ، فيراه عمر ويتبعه في سرية لينظر ما عساه أن يفعل ؟ وفي الصباح يذهب إلى تلك العجوز ليسألها عن هذا الرّجل الذي يأتيها فتخبره بأنه يتعاهد أحوالها منذ زمن، فيقول عمر رضي الله عنه: ويحك يا عمر، تريد عورة الصديق، ثكلتك أمك.

ويقع لعمر أيضا ما قد فعله بالصديق فقد خرج ليلة في جنح الليل، حتى لا يراه أحد، ودخل بيتا، ثم دخل بيتا آخر، ورآه رجل، ولم يكن عمر على بأن هناك رجل رآه.

نعم، رآه طلحة رضي الله عنه فظنّ أنّ في الأمر شيئا، وأوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر لهذا البيت؟ ولماذا وحده؟ ولماذا في اللّيل؟ ولماذا يتسلّل؟

ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟ ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدع إلى الريبة.

ولمّا كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوزا عمياء مقعدة، فسألها:ما بال هذا الرجل يأتيك؟ وكانت لا تعرف أنّ الرّجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالت العجوز العمياء المقعدة: إنّه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج الأذى عن بيتي، أي يكنس بيتها ويقوم بحالها، ويرعاها عمر رضي الله عنه.

ولن نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر بن الخطاب وفعله الصدّيق قبله رضي الله عنهما، فهذه المواقف ليست عجبا في حياة تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم.

ولكن نعجب من شدّة إخفاء الخليفتين لهذا العمل حتى لا يراهما أحد، وفي الليل، وفي سواد الليل، ويمشي لواذا خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله.

وهذا عمر بن ثابت يقول قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار السّواد في ظهره فقالوا ما هذا ؟ فقالوا كان يحمل جرّب الدّقيق (أكياس الدقيق) ليلا على ظهره، يعطيه فقراء المدينة.

وذكر ابن عائشة قال: قال أبي:" سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السّر حتى مات عليّ بن الحسين " رضي الله عنه وأرضاه.

10- قضاء الديون:
نعم أخي الكريم لقد كان للأخفياء سهم في كل باب، وأثر في كل ناد، وانظر القصة المدهشة التي تنمُّ عن نفس عالية تريد الادخار ليوم لا ينفع المرء غلا صالح عمله، فعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى (طرسوس)[58].

وكان ينزل الرِّقَّةَ في خان (يعني فندق)، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، قال فقدم عبد الله الرّقّة مرّة فلم يَرَ ذلك الشّاب،وكان مستعجلا (أي عبد الله بن المبارك)، فخرج في النّفير (أي إلى الجهاد).

فلما قفل من غزوته، ورجع إلى الرّقّة، سأل عن الشّاب.فقالوا إنّه محبوس لدين ركبَه.فقال عبد الله وكم مبلغ دينه ؟ فقالوا عشرة آلاف درهم.

فلم يزل يستقصي حتى دُلّ على صاحب المال، فدعا به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم، واستحلفه ألاّ يخبر أحدا مادام عبد الله حيّا، وقال إذا أصبحت فأخرج الرّجل من الحبس.

وأدلج عبد الله (أي سار في آخر اللّيل).وأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك، وقد خرج.

فخرج الفتى في أثره، فلاحقه على مرحلتين أو ثلاثة من الرّقّة.

فقال يا فتى (عبد الله بن المبارك يقول للفتى) أين كنت؟.

فانظر إلى ابن المبارك كيف يتصانع –رضي الله عنه وأرضاه- وكأنّه ما علم عن حال الفتى ؛ فقال عبد الله المبارك: يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان.

نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين، فقال له: وكيف كان سبب خلاصك؟، قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وَفَّقَ لك من قضاء دينك.

فلم يخبر أحد بعمل ابن المبارك إلا بعد موته رحمه الله تعالى.       

11- الجهاد:
لقد أبلي الأولون من السّابقين مهاجرين وأنصارا بلاء حسنا في سبيل الله تعالى، وكان جهادهم في سريّة الدعوة إلى الله تعالى جهادا عظيما حتى استوت على سوقها، فباعوا في سبيلها الغالي والرخيص، وتركوا أموالهم وديارهم من أجل كلمة إعلاء الله تعالى، وقاطعوا القريب، وحقد عليهم البعيد والغريب، وكان من طلائع جهادهم هجرتهم السّريّة حبّا في الله تعالى وطلبا لمرضاته، فقطعوا الفيافي والقفار، وعبروا الأنهار والبحار، وقلوبهم مملوءة رضا بما يصنعون، ولمّا انتصروا في بطولاتهم وفُتِحَت عليهمُ الدُّنيا،لم تجرفهم الغنائم والأعراض الدّنيوية بل ثبتوا على ماكانوا عليه فتخرّج على أيديهم تلاميذ، يَكْثُرُونَ عند الفزَعِ ويَقِّلُونَ عند الطمع،وممّا حفظ لنا التاريخ من حبّهم للجهاد ورجائهم في كتم أعمالهم عن الغير فمن تلك المواقف المبهرة:

أنّ مَسْلَمَةَ كان يحاصر ذات يوماً حصناً وما أكثر الحصون التي حاصرها، وما أكثر الحصون التي فتحها باسم الإسلام والمسلمين.. واستعصى فتح الحصن على الجنود فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول: أمّا فيكم من أحد يَقْدُمُ فيدخل من ذلك النقب في الحصن؟[59] وبعد قليل تقدّم جندي ملثّم، وألقى بنفسه على الحصن واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام ودخل نَقَباً كان في الحصن، فكان سبباً في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة جنوده قائلاً: أين صاحب النّقب؟ فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النّقب أن يأتي للقائي وقد أمرت الآذان[60] بإدخاله عليَّ ساعة مجيئه.

وبعد حين أقبل نحو الآذِانِ شخصٌ ملثّمٌ، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال: أأنت صاحب النّقب؟ فقال: أنا أدلّكم عليه، فدخل فقال للقائد: إنّ صاحب النّقب يشترط عليك أموراً ثلاثة:
1- ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة؛
2- وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع؛
3- وألا تسألوه من هو؟.

فقال مسلمة: له ذلك، أين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء، أنا صاحب النّقب أيّها الأمير ثم سارع بالخروج، فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلّي صلاة إلاّ قال في دعائها:" اللهمّ اجعلني مع صاحب النّقب يوم القيامة".[61]

بل إنّ أمانتهم وإخلاصهم لله تعالى الذي يراقبونه سرّا وعلانية، حملهم أن يؤدوا الأموال العظيمة سرّا، فقد أورد ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تاريخه: أنّ المسلمين لما هبطوا المدائن وجمعوا الاقباض – الغنائم - أقبل رجل بِحُقٍّ معه [62]، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال: والّذينَ معه: ما رأينا مثل هذا قطّ ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أمَا والله لولا الله ما أتيتُكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه.

فأَتْبَعُوهُ رجلا حتّى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه؟، فإذا هو عامر بن عبد قيس القيسي الحضرمي أحد عبّاد التّابعين وزهادهم، وهو أوّل من عرف منهم بالنّسك بالبصرة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم [63]..

وهذا الفارس المغوار، والمحدِّث المِعْطَار،والعابد المِكْثارُ، عبد الله بن المبارك، العبد المبارك، الذي ما ترك سبيلا للخير إلا فعله، ولا طريقا للبر إلا سلكه، اجتمع فيه ما لم يجتمع في كثير من الرجال، يقول عنه قال عبدة بن سليمان المروزي: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدوّ، فلما التقى الصّفّان خرج رجل من العدوّ، فدعا إلى البِرَاز [64]، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فطارده ساعة، فطعنه فقتله، فازدحم إليه النّاس، فنظرت فإذا هو عبدالله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمّه، فأخذت بطرف كمّه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا !"[65].

قصّة عجيبة، وخفاء شديد، وربانيّة عظيمة:
إنّ من القصص العجيبة التي تدهش العقول، وتوقف العبد على حقيقة العابدين الصّالحين الأخفياء الأتقياء، الّذين يفرّون من السّمعة والرّياء، وهي قصة طويلة، فَسِرْ مع أحداثها وفصولها، لتملأ قلبك بما يثبته ويقويه.

واسمع معي إلى الإمام الزّاهد محمّد بن المنكدر رحمه الله تعالى ليحدّثنا عن هذا الرّجل الذي رآه، ذكر هذه القصّة ابن الجوزي في صفة الصفوة [66]، وذكرها الذّهبي في سير أعلام النّبلاء، عن محمد بن المنكدر، وفي ترجمته قال:

عن محمد بن المنكدر قال:
كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس أصلّي إليها باللّيِل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستقون فلم يسقوا فلما كان من اللّيل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل اسود تعلوه صفرة متزر بكساء وعلى رقبته كساء اصغر منه.

أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا اقسم عليك لما سقيتهم.

قال ابن المنكدر فقلت: مجنون، قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي، فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم اسمع يمثلها قط، قال: ثم قال ومن أنا وما أنا حيث استجبت إلي ولكن عذت بحمدك وعذت بطولك، ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح، ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس، ودخلت معه، فلما سلم الإمام، قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب المسجد فخرج يرفع ثوبه ويخوض الماء فخرجت خلفه رافعا ثوبي أخوض الماء فلم أدر أين ذهب؟.

فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر، وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه، فلما سلم الإمام خرج من المسجد، وخرجت خلفه فجعل يمشي واتبعته حتى دخل دارا قد عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد.

فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخرز، وإذا هو إسكاف فلما راني عرفني، وقال أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة تريد أن اعمل لك خفا، فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولى، فاسود وجهه وصاح بي، وقال ابن المنكدر: ما أنت وذاك ؟، قال: وغضب، قال: ففرقت والله منه وقلت اخرج من عنده الآن.

فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجيء، قال: قلت إنا لله ما صنعت ؟ !!!، فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها، فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس، قلت: ما له ؟، قالوا: لمّا خرجت من عنده أمسِ بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب؟، قال محمد بن المنكدر: فما تركت بالمدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده، رحمك الله أيها الخفي، ورحم الله حالنا.

بأمثال هؤلاء يستسقى الغمام، ويعم الخير والبركة والنّصر الأنام، كما قال عليه الصلاة والسلام ((إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ ، وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ)) أخرجه النسائي 6/45 ، وفي "الكبرى" 4372،و أخرجه البُخاري 4/44(2896) عَن مُصعَبِ بن سَعد عن سعد رضي الله عنه أَنه ظن أن لَهُ فَضلا على مَن دُونَهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُززَقُونَ إلاَ بِضُعَفَائِكُم؟)).

وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ، ذُو طِمْرَيْنِ، لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ)) أخرجه ابن ماجة (4115)، وأخرجه التِّرْمِذِي (3854 )[67].

ثناء النّاس وأثره على عمل العبد سرًّا:
بوّب الإمام الترمذي بابا قال (باب عمل السرّ) عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رجل: يا رسول الله الرّجل يعمل العمل فيسرُّه، فإذا اطُّلِعَ عليه أعجَبَهُ ذلك ؟.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((له أجران: أجر السِّرِّ وأجرُ العلانية))[68].

قال الترمذي: وقد فسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إذا اطُّلِعَ عليه فأعجبه، فإنما معناه أن يُعْجِبُهُ ثناءُ الناس عليه بالخير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم شهداء الله في الأرض"، فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا لما يرجو بثناء الناس عليه، فأما إذا أعجبه ليَعْلَمَ النّاس منه الخير ليُكرَمَ على ذلك ويعظّم عليه فهذا رياء، وقال بعض أهل العلم: إذا اطُّلِع عليه فأعجبَه رجاءَ أن يعملَ بعمَلهِ فيكونَ له مثل أجورِهم فهذا له مذهب أيضا.

قال ابن رجب:" فأما إذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثّناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك بفضل ورحمة واستبشر بذلك لم يضرّه ذلك وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده النّاس عليه، فقال: ((تلك عاجلُ بشرى المؤمن )) [69] خرجه مسلم[70] وخرجه ابن ماجه[71]، وعنده الرَّجُل يعمل العمل لله فيحبّه الناس عليه، وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وابن جرير الطبري وغيرهم وكذلك الحديث الذي خرّجه التّرمذيّ وابن ماجه[72] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله الرّجل يعمل العمل فيُسِرُّهُ فإذا اطُّلِعَ عليه أعجبَهُ، فقال: "له أجران أجر السِّرِّ وأجر العلانية" [73].

كيف أعرف نفسي في هذا المقام؟:
يختلف الناس في إخلاصهم زيادة ونقصانا، فمسِرُّ مُتَكَتِّمٌ على أعماله جلِيلِهَا وحَقِيرِهَا، وذاكر لها، قد قوي عزمه، وقهر شيطانه، وكسر غروره وإعجابه بنفسه فاستوى عنده السِّرّ والعلانية، وقد تساءل الإمام الطبري عن ذلك فقال: فإن قال قائل: كيف يَسْلَمُ من الرّياء في العمل الظَّاهر، وقد روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجماعة من السلف أنَّهم كانوا يتهجّدون من اللّيل في مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفُهم، وكانوا يتذاكرون إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار أن أفضل العمل ما استّسرَّ به صاحبه؟.

قال: إنّ ذلك على نوعين: فأمّا من كان إمامًا يقتدى به ويُستنّ بعمله، عالمًا بما لله عليه في فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه، فسواء عليه ما ظهر من عمله وما خفي منه؛ لإخلاصه نيّته لله وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرّغبة في مثل حاله من أعماله السّالمة أحسن إن شاء الله تعالى.

وإن كان ممن لا يُقْتَدَى به، ولا يأمن من عدوّه قهره، ومن هواه غلبته حتّى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه النّوافل أسلم له، وعلى هذا كان السّلف الصّالح، روى الزهري، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه: "أنّ عبد الله بن حذافة صَلّى فجهر بالقراءة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن حذافة، لا تسمعني وأسمع الله))[74].

قال وهيب بن الورد: لقي عالم عالمًا هو فوقه فى العلم، فقال: يرحمك الله ما الذي أخفى من عملي؟.

قال: (اخف عملك) حتّى يظنّ بك أنّك لم تعمل حسنةً قطّ إلاّ الفرائض.

قال: يرحمك الله فما الذي أعلن؟.
قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

وقال الحسن: "لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدرُ على أن يُسِرَّ عمَلَهُ فيعلنه، قد علموا أنّ أحرز العملين من الشيطان عمل السرّ، قال:وإن كان أحدهم ليكون عنده الزَّوْرُ[75] وإنه ليصلّى وما يشعر به زوره. وكان عمل الرّبيع بن خُثَيْم سِرًًّا كان يقرأ في المصحف، ويدخل عليه الدّاخل فيغطيه.

وروى عن ابن سيرين قال: نبئت أنّ أبا بكر كان إذا صلّى فقرأ خفض صوته، وكان عمر يرفع صوته، فقيل لأبى بكر: لم تصنعُ هذا؟ قال: أُنَاجِي ربّى وقد علم حاجتي. قيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان. قال: أحسنت. فلما نزلت: ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 110 ]، قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا. فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم [76].

ثمرات العبادة في الدنيا والآخرة:
1- تفيد رفعة المكان والمكانة.

2- فيها عظم الثّواب، ورضا ربّ الأرباب.

3- هي دليل اليقين، وعلامة الدّين.

4- ثوابها سكن الجنّة وهي أعظم منّة.

5- دليل التّوكّل، وعلامة التّعقّل.

6- علامة التّوفيق من اللّه.

7- الملائكة تحفّ العابد بأجنحتها وتحفظه.

8- تتكاثر حوله الرّحمات، وهي أعظم الهبات.

9- صورة لشكر العبد المنعم عليه، وعلامة رضاه عن النّعم.

10- حسن العبادة يثمر حسن الظّنّ باللّه تعالى.

11- التّوفيق في سؤال القبر.

12- تثمر الصّبر، والصّبر يثمر حسن العوض.

13- تثمر حبّ النّاس ممّا يثمر حسن الذّكر وحسن الثّواب بالأثر[77].

المحاذير:
• احذر أن يفسد عليك الشيطان عملك، فإنه لك بالمرصاد.

• لا تحدث بعمل عملته سرّا فلربّما انتقل إلى العلانية فأفسده الشيطان وقد كان سفيان الثوري يقول :إن العبد ليعمل العمل سرا ولا يزال به الشيطان حتى يتحدث به فينقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية.

وعن عائذ الكلاعي قال إن الرجل ليعمل عملا في السر فيكتبه الله في عمل السر فيحدث به فيكتبه الله في عمل العلانية فيأتي عليه ما أتى فيحدث به فيكتبه الله تعالى بها من المرائيين [78].

• احذر تطلع النفس لمعرفة الناس عملك الخفي ن فإنه مرض دقيق أشار إليه المربون.قال أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء –رحمه الله تعالى – عند ذكره للرياء الخفي قال: (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام.

ويقابلوه بالبشاشة والتوقير.

وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه.

وأن يسامحوه في البيع والشّراء، وأن يوسعوا له في المكان.

فإن قصر مقصّر ثقل ذلك على قلبه، ووجد في ذلك استبعادا في نفسه كأنّه يتقاضى الاحترام والطّاعة التي أخفاها، كأنّه يريد ثمن هذا السّر الذي بينه وبين الله احترام النّاس، وهو لم يظهر العمل، والعمل الخفي بينه ويبن ربه، ولكنه ( ما دام أنه عمل ) نظر لنفسه.

فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذا استبعد نفسه ونظر لحله، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه)[79].

• احذر ذم النفس أمام الناس، ففيها إطراء خفي لاينتبه له إلا الخفياء وقد أشار إليها ابن رجب عندما قال – رحمه الله تعالى -:

(وهنا نكتة دقيقة، وهي الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم، ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبّه عليه السّلف الصّالح، قال مطرّف بن عبد الله بن الشّخير: (كفى بالنّفس إطراء أن تذمّها على الملأ، وكأنّك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه).

• لا تترك العمل بحجة أنّ الناس لو اطلعوا فسيفسدون عليك العمل بإدخال الوساوس إلى نفسك واجعل كلام الفضيل بن عياض رحمه الله: (أن ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك،والإخلاص ان يعافيك الله منهما).

ويقول أيضا: (ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة النَّاس، والاحتراس من ظنونهم الباطلة لأنسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيّع على نفسه شيئا عظيما من مهمّات الدّين وليس هذه طريقة العارفين).

واسمع لكلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى عندما يقول: "ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام الليل، أو غير ذلك.

فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يضع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا لله، مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص)[80].

كما أنه لايجوز لأحد أن ينهى أحدا عن أمر مشروع لئلا يفعله أمام الناس، لماذا؟ يقول: خشيه الرياء.

يقول ابن تيمية –رحمه الله تعالى- عن ذلك: (ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء فنهيه مردود عليه من وجوه:

الأول: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفا من الرياء، بل يؤمر بها والإخلاص فيها، فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء.

ثانيهما: لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق قلوبهم)).

الثالث: إن تسويغ مثل هذا يقضي إلى أن أهل الشرك والفساد يمكرون على أهل الخير والدين، إذا رأوا من يظهر أمر مشروعا قالوا: هذا مراء فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذرا من المزعوم، فتعطل الخير.

الرابع: إن مثل هذا يعني إنكار الناس عمل مشروعا بحجة أنه رياء، يقول: إن مثل هذا من شعائر المنافقين، وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال تعالى: ﴿ الذين يلمزن المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فسيخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ﴾ اهـ[81].
الخاتـمة
نعم أخي الحبيب، هكذا عاش الصالحون في معترك الحياة بين أعداء تتجاذب أعمالهم، من نفس وشيطان،ودنيا وهوى، فانتصروا عليها بفضل الله أولا ثم بفضل خالص عملهم سرا وعلانية، ومن أراد مسلكهم فليكن كما قال الشيخ عبدالقادر الكيلاني رحمه الله تعالى " كن صحيحاً في السر: تكن فصيحاً في العلانية"، نعم أخلص لله تعالى في السر، فإن الله سيكسوك برداء القبول في الأرض والسماء، ومهما عملت من عمل فاحتقره، وصغره في عينيك لتزداد صالحا، واكتمه كما تكتم سيئاتك، ولا تكن وليا لله في العلانية، وعدوه في السر كما قال بلال بن سعد [82]، وأين نحن من رجال كتب التاريخ مجدهم بمداد الخلود، فصاروا أئمة يقتدى بهم وقد أرمت عظامهم،وبليت ملامحهم.

سقاني الله وإياك من كأس الإخلاص،
الممزوج بعروق الصدق،وجعلنا من المخلصين سرا وعلانية،
اللهم اجعل سرنا خيرا من علانيتنا، واجعل ظواهرنا صالحة.


[1] طريق الهجرتين ، ص 57 .
[2] تفسير ابن جرير ، 1/160 .
[3] العبودية ، ص 38 .
[4] [النمل:91] .
[5] التعريفات (151).
[6] مفردات الراغب (318).
[7] (البقرة/ 21).
[8] كفّ الناقة عن سيرها ، ونظر إلى أصحابه مستحسنا لهذا السؤال ، ومستحضرا لأفهام أصحابه (المفهم لما أشكل من تلخيص
كتاب مسلم للقرطبيُّ ).
[9] رواية أبي أيوب عند أحمد 5/417(23935) و"البُخَارِي" 2/130(1396) و"مسلم" 1/32(12)
[10] رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري- الفتح 3 (1397) واللفظ له، ومسلم (15).
[11] البخاري- الفتح 1 (50) من حديث أبي هريرة. ومسلم (8) واللفظ له.
[12] البخاري- الفتح 3 (1130). ومسلم (2819) واللفظ له.
[13] ابن حجر في فتح الباري (11/ 338) وقال: أخرجه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات.
[14] انظر: الزهد، لأحمد: 135، المصنف لابن أبي شيبة: 7/148، التمهيد لابن عبد البر: 17/446، وانظر مقالا للشيخ فيصل البعداني بمجلة البيان.
[15] صيد الخاطر لابن الجوزي (119).
[16] انظر في ذلك: الفتاوى لابن تيمية: (10/393-407، وكتاب العزلة للخطابي ، و(العزلة والخلطة)، ل د سلمان العودة.
[17] ”العزلة” للخطابي.
[18] السير (8/375) .
[19] بمعنى أنها تطهر القلب من شوائب الرياء .
[20] تاريخ بغداد، للخطيب: 11/262، وصححهالألباني في صحيح الجامع (6018)، ورجّح الدارقطني وقفه، انظر: العلل المتناهية لابنالجوزي (1376).
[21] في الزوائد في إسناده بقية وهو مدلس وقد عنعنه قال الشارح ( هذا عبدي حقا ) أي لأنه يحسن الصلاة إخلاصا ولا رياء. ]
قال الشيخ الألباني: ضعيف، انظر حديث رقم : 1498 في ضعيف الجامع ).
[22] أخرجه أحمد 1/168(1441) و"مسلم" 4/214(7542). ومعنى : الغني الذي استغنى بنفسه عن الناس ، غنى بالله عز وجل عمن سواه ، لا يسأل الناس شيئاً ولا يتعرض للناس بتذلل، بل هو غنى عن الناس ، مستغن بربه لا يلتفت إلى غيره.
الخفي هو الذي لا يظهر نفسه ، ولا يهتم أن يظهر عند الناس ، أو يشار إليه بالبنان ، أو يتحدث الناس عنه ، تجده من بيته إلى المسجد ، ومن المسجد إلى بيته، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه ، يخفي نفسه.
[23] ورواه الحاكم (1/ 4) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين ووافقه الذهبي.قال محقق كتاب الغرباء: إسناده صحيح، وروي بطرق كثيرة فيها ضعف. ومعنى قوله: غبراء مظلمة : أي من عهدة كل مسألة مشكلة أو بلية معضلة".
[24] حلية الأولياء، لأبي نعيم: (2/347.).
[25] حلية الأولياء، لأبي نعيم: (4/69-70).
[26] صيد الخاطر لابن الجوزي (ص108 – 109) بتصرف يسير.
[27] البخاري- الفتح 1 (52) واللفظ له، ومسلم (1599).
[28] انظر: تهذيب الكمال، للمزي: (14/464).
[29] عبادة السر للشيخ فيصل البعداني مجلة البيان http://www.albayan-magazine.com.
[30] فدنفوا (من الدنف وهو المرض ) و يقصد ابن القيم رحمه الله تعالى أنهم امتلأت قلوبهم بحبه ، كما يمتلئ قلب العاشق بمحبوبه فيهيم فيه حتى يصير كالمريض الذي صاحبه المرض طولا من الزمن ،والله أعلم .
[31] طريق الهجرتين ، ص 206 ، 207 ، وانظر ، ص 305 . )
[32] جامع العلوم والحكم ، 1/524 .
[33] الترغيب والترهيب (1/ 103) واللفظ له، وقال: رواه الخطيب في تاريخه بإسناد حسن، ورواه ابن عبد البر النمري في كتاب العلم عن الحسن مرسلا بإسناد صحيح، وانظره فيه (1/ 190/ 191)، وقد حسنه السيوطى في الجامع الصغير رقم (5717). وقال المناوي: قال المنذري: إسناده صحيح، وقال العراقي: جيد، وإعلال ابن الجوزي له وهم، وقال السمهودي: إسناده حسن، ورواه أبو نعيم والديلمي عن أنس- رضي اللّه عنه- مرفوعا، فيض القدير (4/ 39).
[34] انظر جامع بيان العلم وفضله (1/155)، وقال ابن القيم في مفتاح السعادة (1/120)وحسبه ان يصل إلى معاذ.
[35] الإحياء للغزالي (1/48)،وانظر تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (67) .
[36] الجواهر الهريرية ( سيرة وشرح أربعين حديثاً لأبي هريرة رضي الله عنه ) لأأبي يوسف محمد زايد(1/ 475).وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (17/16)
[37] خفيف الحاذ:
[38] رواه ابن ماجة ضعيف ، المشكاة ( 5189 / التحقيق الثاني ) // ضعيف الجامع الصغير ( 1397 ) //
[39] حلية الأولياء، لأبي نعيم: (8/95)
[40] في كتابه الرقائق .
[41] الشاعر محمد إقبال رحمه الله تعالى .
[42] تذكرة الحفاظ للذهبي (1/131).
[43] السير ( 12/200 ) .
[44] حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني(6/ 72).
[45] الأعراف ( 55).
[46] تفسير ابن كثير (3/ 69).
[47] تفسير ابن كثير (3/ 69).
[48] المرجع السابق .
[49] السير للذهبي (119\6).
[50] رواه البخاري (1428).
[51] فتح الباري للحافظ ابن حجر ( 2/458).
[52] رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/ 459) . وانظر فتح الباري ( 2/458) باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة . والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير 477.
[53] سير أعلام النبلاء ( 4/394). تهذيب الكمال للمزي (20/393).
[54] أبو داود 1 (904) واللفظ له. والنسائي (3/ 13). وقال محقق جامع الأصول (5/ 435): حديث صحيح.
[55] حلية الأولياء.
[56] حلية الأولياء (2/347) .
[57] [الشعراء:89] .
[58] طرسوس مدينة ساحلية على البحر المتوسط تقع بين تركيا وسورية.
[59] النقب : ( النقب ) الخرق في الجلد أو الجدار أو نحوهما ( ج ) أنقاب ونقاب الوسيط (باب النون ).
[60] أي الحاجب .
[61] عيون الأخبار لابن قتيبة (1/172).
[62] الحقُّ: وعاء كبير مملوء بالجواهر والتحف .
[63] تاريخ ابن جرير الطبري حوادث سنة (16ه) (4/176).
[64] المبارزة بين رجلين .
[65] السير للذهبي (8/394).
[66] من كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي ص : 219-220 .
[67] قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 321 : 1741 صحيح .
[68] قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الألباني: ضعيف. رواه ابن ماجه(4317)، ابن حبان(374)، البيهقي في(شعب الايمان)(7003)، الترمذي(2424) واللفظ له وقال: هذَا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
[69] قال النووي في "شرح صحيح مسلم" 8/359 : قال العلماء : معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث، ثم يوضع له القبول في الأرض . هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم ". .
[70] في " صحيحه " 8/44 ( 2642 ) ( 166 ).
[71] في "سننه" ( 4225 ) .
[72] أخرجه: الترمذي ( 2384 ) ،وابن ماجه ( 4226 )،
[73] جامع العلوم والحكم لابن رجب ( 1/37).
[74] رواه البيهقي في سننه، رقم 2735.
[75] أي الزوار .
[76] شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/209) .
[77] نضرة النعيم (7/2789).
[78] المتفق والمفترق للخطيب البغدادي ( 425).
[79] إحياء علوم الدين الغزالي أبو حامد (3/ 306) .
[80] مجموع الفتاوى لابن تيمية الحراني (23/ 174).
[81] المرجع السابق، ج23ص174.
[82] سير أعلام النبلاء (11/518) .


شارك:
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تلاوات خاشعة لمختلف القراء

أرشيف المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة