محمد صديق المنشاوي

9

لماذا أعفيتُ لحيتي وقَصّرت ثوبي؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لماذا أعفيتُ لحيتي وقَصّرت ثوبي؟


salaty-tv.blogspot.com




لأن إعفاء اللحية من الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الرجال عليها
والفطرة كما عرَّفها البيضاوي رحمه الله: ( هي السنة القديمة التي إختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي ينطوون عليها ). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { عشرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وانتقاص الماء }. قال زكريا: قال مصعب: ونسيتُ العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاض الماء يعني الإستنجاء. [رواه مسلم].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( البراجم جمع بُرجمة، وهي عُقد الأصابع التي في ظهر الكف ).
ولأن في إعفاء اللحية مخالفة للمشركين من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم
وعلة المخالفة هذه لا تزال قائمة، فلا يزال المسلم يتميَّز بإعفاء لحيته، وإعفاء بعض المشركين للحاهم لا يعني إنتفاء علّة المخالفة، فقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { خالفوا المشركين: وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب } وفي رواية مسلم: { أوفوا اللحى }. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{ قُصُّوا سِبالكم، ووفِّرُوا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب }. [حسنه الألباني في الصحيحة].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: { وفرُِّوا } من التوفير وهو الإبقاء، أي: إتركوها وافرة، والسبال: جمع سَبلة، وهي الشارب، والعثانين: جمع عثُنون، وهي اللحية.
قال الشوكاني رحمه الله: ( قد حصل من مجموع الأحايث خمس روايات: { أعفوا، وأرخوا، وأوفوا، وأرجوا، ووفروا }، ومعناها كلها تركها على حالها ).
وقال النووي رحمه الله: ( معنى إعفاء اللحية إتركوها كاملة وافية لا تقصوها ولكن قد رخَّص بعض أهل العلم بأخذ ما زاد على القبضة لما رواه نافع: { كان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر قبض على لحيته فما فَضَلَ أخذه } [رواه البخاري]. هذا مع شدة تحري ابن عمر رحمه الله للسنة وتعلقه بها، وقد ثبت مثل هذا الفعل عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( الذي يظهر أن ابن عمر لا يخص هذا التخصيص في النُسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوَّه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه ).
وأعفيتُ لحيتي لأن في ذلك إمتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى
فهو تكليف ربّاني يُؤجر المسلم بفعله ويأثم بتركه، فقد جاء في حديث رسولي كسرى الطويل أنهما لمَّا دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما، وأعفايا شواربهما، فكرهَ النظر إليهما، ثم أقبل عليهما، فقال: { ويلكما من أَمركما بهذا؟ } قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقصِّ شاربي } [صحيح السيرة].
فتأمل كيف أنه صلى الله عليه وسلم كره النظر إليهما لما رآهما على هذه الحال، وهذا يعكس بوضوح خروجهم عن الفطرة السليمة كما أسلفنا، وعن سلامة المظهر إلى حد بعيد، فكيف وبعد هذا أرضى لنفسي ملازمة ما فيه مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، وأرضى كذلك أن ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق هؤلاء من إعراضه عن النظر إليهم أن يكون في حقي يوم القيامة، معاذ الله !!
ولأن في حلق اللحية تغييراً لخلق الله سبحانه وتعالى بغير إذن منه عز وجل
وإنما بوحي وتزيين من الشيطان، يقول تعالى في حق الشيطان:  لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا  [النساء:118-120]. ومعنى:  فَلَيُبَتِّكُنَّ  أي يقطِّعُنَّ، ولا ريب أن في حلق اللحية تغييراً لخلق الله سبحانه وتعالى قد نهى الله عز وجل عنه، يفضي على ما هو أعظم وزراً وأشد حرمة من ذات الفعل، من التشبه بالنساء وتقمص خلقتهن، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال } [رواه البخاري].
يقول ابن القيم رحمه الله: ( وأما شعر اللحية ففيه منافع، منها الزينة والوقار والهيبة، ولهذا لا يُرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يُرى على دوي اللحى، ومنها التمييز بين الرجال والنساء ).
قلتُ: وهل هناك أظهر من الوجه في الجنسين، فإذا لم يكن حلق اللحية داخل في التشبيه الصريح بقصد أو بغير قصد فما هو التشبه؟!
وأعفيتها لأن في إعفائها موافقة لسمت الأنبياء والصالحين وهديهم
إقرأ إن شئت قوله تعالى مخبراً عما قاله هارون لأخيه موسى عليهما السلام:  يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي  [طه:94]. فهذا يدلُّ على أن هارون عليه السلام كان عظيم اللحية. وما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير شعر اللحية، وكذا كان الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، كما بيَّنته كتب التراجم والسير، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق كما يقول الشنقيطي رحمه الله.
قلتُ: وانظر إلى كثير من الأحبار والرهبان كيف ورثوا هذا الفعل ممن ينسبون أنفسهم إليهم، فكان هذا من الحق الذي ورثوه غير محرَّف، ألسنا أولى بهذا من المشركين بدلاً من التشبه بمن لا خلاق لهم ولا دين؟!
أما عن تقصيري لثوبي، فتلك صفة المؤمن كما أخبر بذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم حيث قال: { إزرةُ المؤمن على نصف الساق } ثم قال بعد ذلك: { ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين } [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني ]. ومعنى قوله: { لا جناح } أي: لا إثم.
وفي تقصيره تقوى الله سبحان وتعالى، وبُعدًا عن أسباب الكِبر التي قد تُفضي إلى غضب ا لله ومقته، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة } فقال أبو بكر: إن أحد شِقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، قال: { إنك لست ممن يفعل ذلك خّيلاء } [وراه البخاري].
والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه كان يتعاهد إزاره، والذي يفعل هذا يكون أبعد الناس عن الكِبر وإلا لما تعاهده، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتعمد أحدٌ منهم إرخاء ثوبه زاعماً أنه لا يطيله خيلاء، بل الإصرار على إطالة الثوب دالة على التكبر كما يقول ابن العربي رحمه الله، وإلا فما الذي يمنع من رفعه إلى ما فوق الكعبين بقليل، لأجل هذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسبال من المخيلة كما في حديث جابر بن سليم الطويل وفيه: { وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيتَ فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة } [رواه الترمذي وصححه].
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: ( فجعل الإسبال كله من المخيلة ؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يُسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات ). فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم يقصرون ثيابهم و يتعاهدونها عند إسترخائها، وأنا أطيل ثيابي زاعماً أن ما قد يعتريها لا يعتريني، معاذ الله أن أفعل ذلك، فلا أنجى ممن يتَّهم نفسه، ولي في رسول الله  صلى الله عليه وسلموأصحابه أسوة حسنة.
وفي تقصير الثوب صيانة له من الوسخ والنجاسات
ورحم الله عمر بن الخطاب  رضي الله عنهفقد كان يحتضر وعندما رأى شاباً ممن جاءوا يعودونه وقد كان إزاره يمسُّ الأرض فقال له: { إرفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربّك } [رواه البخاري]. وهذا يدلك على أهميه هذا الشأن عند المتقين، فالذي يسمع هذا من عمر ويقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار }. وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلمقال: { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ قال المُسبل والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب } [رواه مسلم].
إن الذي يقرأ هذه الأحاديث ينبغي عليه أن يخشى الله عز وجل ولا يطيل ثيابه إلى ما أسفل من الكعبين، فإن ذلك إن لم يكن بقصد الخيلاء فقد يكون وسيلة إليه، لأجل هذا أعفيتُ لحيتي وقصَّرتُ ثوبي.
وأسأل الله سبحانه وتعالى الثبات على طاعته ولزوم أمره لي ولجميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
شارك:
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تلاوات خاشعة لمختلف القراء

أرشيف المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة