محمد صديق المنشاوي

9

الحبُّ الصادق.. والاتِّباع اللاهب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة العالمين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد..



فتمر الأعوامُ المديدة، بما يتجددُ فيها من ذكرياتٍ بهيجة، تسمو معانيها لتنافسَ الجوزاءَ في عليائها، والنيِّراتِ في إشراقها وضيائها، ويختلفُ حالُ المسلمين في التفاعلِ مع الذكرياتِ البهيجةِ هذه، فمنهم من تمرُّ به المناسبة، وهو غافلٌ عن ذكراها، بعيدٌ عن فقهِ معناها وفحواها، وكأن أمرَها لا يعنيه، وشأنَها لقويمِ الصراطِ لا يهديه، ومنهم من يكون تفاعُلُه مقتصرًا على احتفاءٍ فيها، أو نصبِ خيوط زينةٍ خلاَّبة جذَّابة.
معاشرَ الفضلاء: إن ذكرى مولدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تعني- في حقيقتها- أعظمَ مما ذُكر أمرا، وأرفعَ مما اعتادَه الناسُ مكانةً وقدرا..
إن الواجبَ الحقيقيَّ في أيامِ الذكرى المباركةِ هذه، يحتِّمُ على المسلمين توكيدًا للعهدِ والبيعة، لصاحب الذكرى عليه الصلاةُ والسلام، على اتباعِ هديه، واقتفاء أثره ونهجه..
إن الاتباعَ الصادقَ للنبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون نتاجَ محبةٍ لاهبة، تتخلل شغافَ قلبٍ سليم، فتثمر انقيادًا عمليًّا يدفع صاحبَها لاقتفاءِ أثر حبيبِه، ونصرةِ معالم هدْيِه وتشريعِه، إذ أن حبيبَه أخذ لبَّه، وملك عليه فكرَه ونفسَه، فصارت نفسُه أسيرةَ سنتِه، وحبيسَة هديِه وسيرتِه..
لها أحاديثُ من ذكراكَ تُشغِلها *** عن الشرابِ وتلهيها عن الزادِ
لها بوجهكَ نورٌ يُستضاء به *** ومن حديثِكَ في أعقابها حَادِ
إذا شكَتْ من كَلالِ السير واعدها *** روحَ القدومِ فتحيا عند ميعادِ
نعم- معاشر الدعاة- هكذا كانت منزلةُ الحبيبِ الأعظمِ في قلوبِ أصحابِه وأحبابِه، فهي كما قال عليٌ رضي الله عنه: (كان- والله- أحبَّ إلينا من أموالِنا وآبائِنا وأمهاتِنا، ومن الماءِ الباردِ على الظمأ).
نعم يا أتباعَ الحبيبِ الأعظم، إن محبةً قلبيةً لا تثمر تزكيةً واتباعا، ولا توجب لشريعة المحبوب انقيادا، لهي مشاعرٌ خائبة، وأحاسيسٌ باردةٌ كاذبة، إذ المُحبُّ الحقيقيُّ الصادق، هو الذي تحرَّرَ من كلِّ ما سوى شِرعةِ حبيبه، فما ملَكََه سواها، بل لزِمَ صراطَها وهُداها، فهو كما قال ابنُ القيم: (هو العبدُ المطلقُ الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيِّدْه القيود، فهذا هو المتحقِّقُ بـ {إياك نعبد وإياك نستعين} حقا، والقائمُ بها صِدقا، ملبَسُه ما تهيأ ومأكَلُه ما تيسر، واشتغاُله بما أمر الله به في كل وقتٍ بوقته.. لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم. حرٌ مجرد. دائرٌ مع الأمرِ حيث دار، يدينُ بدين الآمر أنى توجهت ركائبُه، ويدورُ معه حيث استقلت مضاربُه، يأنسُ به كلُّ محق، ويستوحشُ منه كلُّ مبطل، كالغيثِ حيث وقعَ نفع، وكالنخلةِ لا يسقُط ورقُها وكلُّها منفعةٌ حتى شوكها. وهو موضعُ الغلظةِ منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارمُ الله. فهو لله وبالله ومع الله).
إن الذكرى الحقيقيةَ للمولد الأطهر، لا تكمن في إظهارِ شعاراتِ المحبة- على أهميتها- ولا تقتصر على لزومِ الهدي الظاهر- على ضرورته- ولا تتمحَّضُ حقيقتُها في الانشغال في فروعٍ من العلم وأنماطٍ من التعبد، مجتزأةٍ في كثير من الأحايين عن أصولها الصحيحة..
إن حقيقة الذكرى، تكمن في حبٍ صادقٍ لصاحبها عليه الصلاة والسلام، يدفع كل شهمٍ من أحبابه، وصفيٍّ من أنصاره وأتباعه، إلى اتباعٍ حقيقيٍّ لاهب، تتمثل حقيقته في ميادين النصرة، مزاحمةً ومدافعة، ومراغمةً ومكابدة، نصرةً للشريعة وأهلها، وذودًا عن بيضتها وحوضها، وما أكثر ميادين النصرة تلك!
بيد أن حسَّان الدعوة الدكتور عبد الرحمن العشماوي قد وضَّح معاني الحبِّ الصادق، وماهية الاتباع اللاهب، فأفاد وأجاد، وأجاب على شبه الأدعياءِ بالصواب والسداد، فأنشأ يشدو يقول:
إني أقول لمن يخادعُ نفسَه *** ويعيشُ تحت سنابكِ الأوزار
سل عن حنينِ الجذعِ في محرابه *** وعن الحصى في لحظةِ استغفار
سل صُحبةَ الصديقِ وهو أنيسُه *** في دربهِ ورفيقُه في الغار
سل حمزةَ الأسدَ الهصورَ فعنده *** خبرٌ عن الجنات والأنهار
سل وجهَ حنظلة الغسيلِ فربما *** أفضى إليك الوجهُ بالأسرار
سل مصعبًا لمَّا تقاصرَ ثوبُه *** عن جسمِه ومضى بنصف إزار
سل في رياضِ الجنةِ ابنَ رواحةٍ *** واسأل جناحي جعفر الطيار
سل كلَّ من رفعوا شعارَ عقيدةٍ *** وبها اغتنوا عن رفع كل شعار
سلهم عن الحبِّ الصحيح ووصفِه *** فلسوف تسمعُ صادقَ الأخبار
حبُّ الرسولِ: تمسك بشريعةٍ *** غرَّاء في الإعلان والإسرار
حبُّ الرسولِ تعلقٌ بصفاته *** وتخلقٌ بخلائق الأطهار
حب الرسول حقيقةٌ يحيا *** بها قلبُ التقيِّ عميقةُ الآثار
إحياءُ سنته، إقامةُ شرعه *** في الأرض، دفعُ الشك بالإقرار
إحياءُ سنته حقيقةُ حبه *** في القلب، في الكلمات، في الأفكار
يا سيد الأبرار: حبُّكَ في دمي *** نهرٌ على أرض الصبابة جار
لك يا نبيَّ الله في أعماقنا *** قممٌ من الإجلال والإكبار
علمتنا معنى الولاءِ لربنا *** والصبر عند تزاحمِ الأخطار
ورسمت للتوحيدِ أجملَ صورةٍ *** نفَضَتْ عن الأذهانِ كلَّ غُبار
فرجاؤنا ودُعاؤنا ويقينُنا *** وولاؤنا: للواحدِ القهَّار
































وفي هذه الأبيات الرائعة، وما حوته من جميلِ تصويرٍ وعميقِ مشاعر، إلماعةٌ وإبانة، لمن رام معرفةَ حقيقة المحبة والاتباع، ومعالمَ التسنُّنِ والانقياد.. جعلنا الله جميعًا من الصادقين العاملين، والحمد لله رب العالمين.
شارك:
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تلاوات خاشعة لمختلف القراء

أرشيف المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة